نظرة على كتاب “مأساة البيت العربي.. ابتسامات وأنياب السياسة”
وكان مجلس التعاون لدول الخليج العربي موضع اهتمام هذه النظرات باعتباره تجربة فارقة، رغم ما اعترى مسيرته من عقبات، في العمل العربي الجماعي المبني على القواسم المشتركة الموضوعية التي تخلصت من عيوب المشاريع القائمة على الشعارات غير المؤسسة على ما يضمن تحقيقها. وفيها تسليط الضوء على تجربة هذا المجلس في صد الأخطار والتعامل مع التحديات بعد وقوعها، وإبراز الدور المحوري الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في هذا التجمع الإقليمي من منطلق مسؤوليتها عن حفظ أمن المجموعة ودفع الأخطار عن استقرار المنطقة وتوجيه قدراتها إلى ما ينعكس على حياة أهلها.
وفي صفحات هذا الكتاب تحذير من فتح أبواب ونوافذ الريبة والخشية وترسيخ فقدان الثقة بين الدول العربية لأن ذلك ينعكس بالسلب على الشعوب المغلوبة على أمرها التي وجدت نفسها دون إرادة تدخل في ركاب المعتدي وتناصر الظلم، وهو ما يخالف أخلاقها وقيمها. وكان من الصدمات المفصلية في أحداث المنطقة غزو الكويت الذي وجّه ضربة مزلزلة لمفهوم نظام يورث الثقة ويحفظ للشعوب العربية الاستقرار الذي هو الخطوة الأولى نحو النماء، كما يوفر للأنظمة علاقات تساعدها على التعامل مع الظروف الدولية المتغيرة.. وقد وضع ذلك الحدث العالم العربي أمام تحد جديد، تطلب إعادة الحسابات المحلية والإقليمية لمواجهة هذا الواقع.. وواجهت المؤسسة المركزية (الجامعة العربية) وضعاً صعباً بعد الكارثة كاد يعطل مواثيقها ودورها.. والحق أن الجامعة العربية -على الرغم من اتساع مجال القول فيها- ظلت المؤسسة القومية المركزية التي يلجأ إليها العرب للحفاظ على الحد الأدنى من روح التضامن في لحظات الخلاف، كما كانت المنبر الذي ينطلق منه الصوت العربي القوي زمن التصالح والتضامن..
وتتساءل بعض الآراء: في ظل هذا الواقع كيف يحافظ العرب على وزنهم السياسي والاقتصادي والثقافي في المعادلة ليقللوا المخاطر؟.. وكان مشروع المصالحة الذي قادته المملكة العربية السعودية هو مفتاح استعادة الوزن العربي فبالمصالحة الجادة تصبح العلاقات بين الدول العربية المؤثرة مقدمة على أي علاقات ثنائية تربط أي دولة عربية ببعض الدول أو التكتلات غير العربية، وبصورة أوضح فإن تقوية وتنشيط العلاقات العربية – العربية والارتقاء بها إلى المستوى الإستراتيجي سيكون مقدمة لخطوات مهمة أخرى. والمصالحة المعتبرة في هذا المقام هي التي تتم بمعالجة قضايا الخلافات الأساسية، وفي مقدمتها الموقف من المشروع الإيراني في المنطقة ومشروع السلام مع إسرائيل وما يتبع هذين المشروعين من تجاذبات وتداعيات. وبعد المصالحة الجادة يحتاج العرب إلى إعادة روح المبادرة والحضور الفاعل في محيطهم الداعم “الجيوسياسي”. والخروج من نظرة الإنكفاء على الذات، التي تروّج لها أصوات بحجة الاهتمام بالتنمية القطرية، وكأن إصلاح الأوضاع الداخلية وتنمية الأوطان يتعارض مع الحضور الفاعل إقليمياً ودولياً.. وتؤكد الآراء في هذه الصفحات أنه ليس من مصلحة الدول العربية الكبرى أن يتراجع تأثيرها وتتناقص علاقاتها الإستراتيجية مع بعض الدول والأقاليم. وأوضح مثال العلاقة مع باكستان، فليس من مصلحة منطقة الخليج أن تترك باكستان تحت ضغوط تعرضها لانشقاقات داخلية وآثار تنامي التيارات المسلحة ونتائج الضغوط الاقتصادية والارتهان للمعونات الخارجية التي تفرض عليها أجندة معينة.. أخشى أن تؤدي الظروف الباكستانية الحالية -في ظل تناقص الدعم العربي- إلى تفجير وحدة هذا البلد المهم للمنطقة الخليجية.. باكستان نموذج لما يمكن أن يحدث في أفريقيا إذا ظلت الدول العربية المؤثرة متراجعة عن سياسات المبادرات والحضور الفاعل وترك الساحة لمن يتحرك ويخطط ويسد النقص فإن تأثيرها ووزنها سيتناقص وينكمش.
مهما اشتطت الخلافات والنزاعات بين الدول المتجاورة فإنها لا تستطيع التخلص من منطق”الأرض” الذي يعاند أصحاب الأفكار الشاذة حين يحاولون “التحرر” من منطق التاريخ وحكم الجغرافيا الذين يشكلان جزءاً أصيلاً في ثقافة وصورة المجتمعات ونظرتهم لأنفسهم وموقفهم من المختلف.
ليس بإمكان السياسي، مهما كانت سطوته وآلياته وشطحاته أن “يسلخ” الناس من ماضيها التاريخي والثقافي المتراكم، كما لا يمكن للطامعين، القريبين والبعيدين، الأصدقاء والأعداء، أن يقفزوا على هذه الحقائق ليمحوا ذاكرة الشعوب وما وعته وحفظته من مكونات هويتها واعتزازها بنفسها وشعورها بكيانها المختلف عن الآخرين.
والحل؟.. ليست هناك وصفة سحرية لعلاج كل أمراض المنطقة المركبة والمزمنة، لكن ترتيب “الأولويات” ضرورة تفرضها الحاجة لكسر الحلقة المفرغة، ومن الأولويات الملحة: صيانة أمن الأوطان وتحصينها ضد كل ما يهددها وتخفيف الاحتقانات الداخلية والتركيز على التنمية الشاملة التي توقف استمرار الانهيارات وتستثمر الطاقات الشابة في ما يشعرهم بإنسانيتهم وأهميتهم.
كتاب “مأساة البيت العربي.. ابتسامات وأنياب السياسة”، صدر في 438 صفحة ضمت مقالات كتبت على فترات متفاوتة حول القضايا العربية والإسلامية والعالمية، كان رائدها المساعدة على “الفهم” بقدر ما يمكن للإنسان أن يكون موضوعياً في ما يمس وطنه وحياة مجتمعه.