الثقافة

نصوص – جريدة المدينة

نصوص – جريدة المدينة

تاريخ النشر: 25 مايو 2023 23:01 KSA

عادَ وجلس على مكتبه والأوراق بيده، تلك التي كنتُ قد قدمتها له كمبادرة، ناولني إياها.. وذكرَ أن المدير العام أبلغه أن أدفع مبلغاً وقدره.! سألته مستغربًا: من الذي يدفع؟ ولماذا؟ وكيف؟ انتظرتُ قليلًا، وعندما لم يجب.! قلت: هذه خدمة لكم.. يفترضُ أنتم من يدفع.!! وبعد صمت قصير أردفت: ماذا قال لك بالضبط؟ -أرجوك أجبني…. ثم انتظرت، لعله يفرغ من الأوراق التي يتجه بنظره إليها ولكن كان كل تركيزه بها، يقرأها ويعيد قراءتها، كل حواسه موجهة إليها، وقلم الرصاص بيده.! وفي داخلي كم من الاستفهامات تكاد أن تحرقني.. قلت: دعنا نتناقش قليلًا.! إلا أنه ظلّ منهمكا في الأوراق أمامه.. – كيف أبين له غضبي؟ (سألت نفسي) ضربت بكفي على الطاولة.. وقلت: سأغادر (قلتها بصوت مرتفع محاولًا لفت انتباهه) -ولكن لم يجب.!! وقفتُ -محدثاً بالكرسي ضجيجًا- وأثناء ذلك قلت: أرجو أن تبلغه أنكم أنتم من سوف يخسر.! -وكأنه لم يرني ولا يسمعني.. اتجهت إلى باب الخروج، وقبل أن أنزل من الدرج.. توقفت برهة.. ثم عدت إليه.. جلستُ مقابلاً لطاولته.. رسمت على ملامحي ابتسامة، وانهمكتُ في مراقبة انهماكه. ذكرُ طيرِ الكناري «خمري» -بلونِريشِهِ الأصهبِ وأناقةِ مِشيتِهِ الآسرةِللنفوسِ المحبةِ للطيرِ وللجمالِ حينَ تحدث فوقَ أرضيةِ القفصِ، وقفزتِهِالآخذةِ بالألبابِ على الأعوادِ المنصوبةِ بينَ الأعمدةِ الحديديةِ الدقيقةِ المصفوفةِ كغصونِ أشجارٍ طبيعيةٍ لهُ، ووسامةِجسدهِ العاليةِ عندما يطيرُ في الفضاءِالضيقِ- يدخلُ في نوبةِ تغريدٍ طويلةٍ متصلةٍ جاذبةٍ لكلِّ الآذانِ مِن حولِهِ على حدٍّ سواءٍ ومخاطبةٍ لقلوبِهم بلغةٍخاصةٍ، هي لغةُ الفجيعةِ والفقدِ، نوبةٌ قُدّرَ لها أن تكونَ مع انطفاءَة ذيولِ شمسِذاكَ النهارِ الشتوي الباردِ جداً، وأن تُسكتَ بعذوبتِها وبالشجنِ المبثوثِفيها اللغطَ الأخيرَ المحتدمَ بينَ الباعةِ والمشترينَ في سوقِ الجمعةِ الكبيرِللطيورِ الكائنِ في الطرفِ الجنوبي للمدينةِ، ولمْ يكنْ لفاكهةِ التفاحِ الأحمرِالتي تغذّى بها خمري وشربَ عصيرَها في آنٍ واحدٍ ولا لصفارِ البيضِ المسلوقِ الذي حلَّ عليهِ منقارُهُ كثيراً في ذلكَ المساءِ في معلفِهِ الصغيرِ النظيفِ أيُّ أثرٍ في نوبةِ التغريدِ المجنونةِ التي أدخلَ نفسَه فيها، ولم يبتغِ الخروجَ منها، لقدْ دخلَ النوبةَ حينَ شاهدَ أنثاهُ «غرام» بلونِ ريشِها الأصفرِ الليموني وقذالةِ رأسِها الطويلةِ تغادرُ قفصَهما للأبدِ، وهي تتراسلُ معهُ بأصواتِ فزعٍ ونذرِ خوفٍ متتابعةٍ تُطلقُها وهي في جوفِ يدِ المربي الوفي المحتاجِ للمالِ لكي يؤمّنَ طعامَ العشاءِ لأطفالِه، والذي قررَ مضطراً بيعَ الأنثى الأثيرةِ لديهِ بمفردِها على مشترٍ أعجبَ بها وحدَها، وذلكَ في الوقتِ الضيقِ جداً قبلَ أن يعلنَ المؤذنُ لصلاةِ المغربِ إغلاقَ سوقِ الطيورِ بالمدينةِ برفعِهِ للآذانِ بصوتِهِ المرتجفِ الذي بدأَ يختبُرهُ بقول: بِسْم الله بسم الله، وبنحنحاتٍ متقارباتٍ تسقطُ من فوقِ المئذنةِ القريبةِ على رؤوسِ الباعةِ والمتسوقين.. كنتُ واقفاً في السوقِ أتأملُ المعروضَ من الطيرِ للبيعِ لعلي أحظى بشراءِ شيءٍ جميلٍ منها أعالجُ به وحدتي وحزني، أتأملُ أنواعَ الطيورِ كلِّها وهي في أقفاصِها محمولةً على الرؤوسِ أو في الأيدي وأنا في مدخلِ السوقِ متدثراً بأغطيةِ الشتاءِ قريباً من خمري وغرام وهما يتبادلانِ القبلَ بمنقاريهما في قفصِهما غيرَ عابئينِ بالموجةِ السيبيريةِ التي تهبُّ على البلادِ ولا خجلينِ من عيونِ الناسِ التي تراقبُهما، ومن ثَمَّأرى (غرام) تنخفضُ وهي واقفةٌ على العودِ ويفهمُ خمري دعوةَ الحبِّ التي قدمتْها له، ويرقاها بإخلاصٍ، وعيونُهما بعد الفراغِ من اللذةِ المتكررةِ تنظرانِ معاً إلى زاويةٍ في القفصِ حيثُ العشُّ المعلّقُ الذي بنياهُ من خيوطِ الخيشِ في الآنيةِ البلاستيكيةِ الصغيرةِ التي ثبتَها المربي البائسُ كمكانٍ للبيضِ وللتفريخِ. كان المربي جالساً متربعاً فوقَ بسطتِهِ في الفضاءِ المفتوحِ، ويصهلُ بصوتِهِ الحزينِ، والبردُ يقرصُهُ في أصابعِ قدميهِ المكشوفةِ: – زوج كناري مُنتج على الشرط، صحتُهُ طيبة، «والله العظيم لولا الحاجة وبشرف أمي وأبوي ما أبيعه»! البيعُ للزوجِ ما هو للواحد،لا للذكرِ ولا للأنثى، للاثنينِ معاً، وصلوا على النبي، ولا تنسوا أن تراعوا الله فيهِما، ولا تفرقوا بينهُما، إنهما يحبانِ بعضهما حبَّ جنونٍ، «وأقسمُ لكم بعيوني اللي أشوف فيهم، غَرّيتهم بيدي، وربيتهم من يوم كانوا فرخين أصغار، صرتُ أمهم وأبوهم، وسميتهم خمري وغرام، وكبروا قدام نظري في حظيرتي، وتعاشقوا عندي، الله يلعن الحاجه تحدّك على أخس الشيء، كنت أنام جنبهم في عزّ الحر والرطوبة وأطفي جهاز المكيف عليَّ خايف عليهم يموتون من البرودة العالية، وإذا مرضوا كنت الطبيب لهم أعطيهم من أدوية أعيالي اللي للإسهال وللمغص واللي تَصرفْهم لي صيدلية مستوصف الحكومة حتى يتعافوا» فاتقوا الله فيهما، وحتى إنَّ اللهَ يزوجُ في الآخرةِ العشاقَ من البشرِ الذين حُرموا من الزواجِ في الدنيا، إذا كان عشقُهم عفيفاً وكانوا داخلين في جنتِهِ؛ وخمري هذا عمرُهُ كلُّه في الحظيرةِ ما قفزَ على ظهرِ أنثى غيرَ ظهرِغرام حبيبتِهِ وزوجتِهِ، وغرام أنا أشهدُ أنها أنثى كناري طاهرةٌ وعفيفةٌ، أنها قديسةٌ أحصنتْ فرجها لخمري وحدَهُ، أما إناثُ الكناري الأخرياتُ اللاتي في حظيرتي غزل وغزلان وغزاله وغزيل فقد خانوا عشاقَهم من ذكورِالكناري، خانوا نشوانَ وصفوانَ وعدوانَ وغيلانَ، واستبدلوهم بعشقِ ذكورِ كناري آخرينَ، وحتى نشوانُ وصفوانُ وعدوانُ وغيلانُ المغدورونَ المخدوعونَ في الحبِّ في بدايةِ حياتِهم الزوجيةِ، باتتْ سجلاتُهم العاطفيةُ أخيراً مع إناثِ الكناري الأخرياتِ كسجلاتِ الذكورِمن البشرِ المترددينَ ليلاً على غُرفِ البِغاءِ السريةِ في الشوارعِ الخلفيةِ للمدينةِ. استجابَ للصهيلِ مشترٍ نزقٌ، فيما كانتْ الأقفاصُ المصفوفةُ بانتظامٍ على الجانبينِ من الطريقِ بطيورِ دجاجِ البراهما التي تسكنُها والدجاجِ الفيومي وطيورِ الكروانِ والروزِ والسمانِ والزيبرا والحسونِ والبادجي تَجمَّعَ حولَها جلُّ المشترينَ والدلالينَ والمربين: – أريدكَ أن تبيعَني الأنثى وحدَها، عندي في البيتِ ذكرٌ لها، ماتتْ أنثاهُ أمسِ من موجةِ الصقيعِ، وقدْ أزعجني بتغريدِهِ، أريدهُ أن يهدأَ ويغردَ باعتدالٍ. قالَ ذلكَ وهو يشيرُ بإصبعِهِ إلى غرام. – خذ الزوجَ مني مرةً واحدةً أفضل. – لا، يحتاجون علف كثير، وأنا مربي على قد حالي. – غَيّرْ بدّل في كلامك يا ابن الأجاويد. – قلت لك أريد الأنثى فقط، أو لا تأخرني، خلني أشوف بياع غيرك قبل ما يقفض السوق، ما راح أصبر إلى الجمعة الجاية حتى يجي البياعة مرة ثانية، وأتحمل ازعاج الذكر أسبوعا كاملا يلجّ آذاني بتغريده. انصاعَ للأمرِ، وأدخلَ يدَهُ في بابِ القفصِ، وسلمتْ غرامُ نفسَها لراحةِ كفِّ مربيها، التي قبضتْ عليها وانتشلتْها من جوفِ القفصِ، وهي خانعةٌ، مبديةً أعلى درجاتِ الألفةِ، واشتعلَ خطابُها لحبيبِها خمري بأصواتِ النذرِ، حتى اللحظة التي قربها فيها المربي من فمِهِ، وراحَ يقبلُها في مواضعَ كثيرةٍ من جسدِها، ويتشممُها كطفلٍ من أطفالِهِ إلى أن صمتتْ، ليبدأَ بعدَها خمري في جرِّ لحنِ الفراقِ بتغريدةٍ طويلةٍ متعددةِ المقاماتِ، وهي تشيّعُهُ بنظراتِ عينيها المرتعبتينِ من خلالِ الفتحاتِ التي في القفصِ المحمولِ بيدِ المشتري، فيما أخذَ المربي يفتلُ ذيلَ شماغِهِ الذي فوقَ رأسِهِ، ويمسحُ دمعاً ساخناً يتحدرُ من عينيه! جاءَ متحمساً، يسحبُ أباهُ من يدهِ، قاصداً المربي البائسَ الذي نكسَ رأسَهُ باتجاهِ حِجرِهِ، مما دفعَهُ إلى أنْ يقولَ لوليهِ من فرطِ فرحتِهِ برؤيةِ خمري وهو مستغرقٌ في نوبةِ تغريدِهِ: – بابا خلاص ارتحنا، لقيته، أنا أبغى هذا العصفور الجميل. رفعَ المربي رأسَهُ ناظراً إلى الطفلِمع أبيهِ الواقفَينِ أمامَه، ونظرتُ من موقِعي نظرةً خاطفةً لخدِّ الطفلِ مع قولِ المؤذنِ في المسجدِ القريبِ: «اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ»، مبتدئاً رفعَ أذانِ المغربِ، فاستشعرتُ قلبي يقفزُ تحتَ أضلعي قفزاتٍ ليستْ كقفزاتِ خمري في قفصِهِ، ذلكَ أنني رأيتُ في خدِّهِ خدَّها الأسيلَ، خدَّ حبيبتي «شَرْيه»، لقد جرَّني لونُ خدِّهِ وملاستِهِ إلى رؤيةِ وجهِها كلِّهِ فجأةً في زمنٍ ومكانٍ لم أتوقعْهُما، إلى رؤيةِ جسمِها المتناسقِ كاملاً أمامي في جسمِهِ الصغيرِ، إلى رؤيةِ أمِّهِ التي يشبهُها الشبهَ الكبيرَ، حبيبتي التي باعها أبواها منذُ زمنٍ غابرٍ، وزوجاها لرجلٍ لا تحبُّه رغماً عني وعنها، اشتهيتُ في لحظةِ ضعفٍ أن ألمسَ يدَ الطفلِ، وأن أقبّلَهُ في خدِّهِ، وتمنيتُ أن اقتربَ منه أكثرَ، وأشتمَّ رائحتَها فيهِ، فأدخلني ذلكَ كلُّهُ – وخدُّهُ تحديداً- في نوبةِ بكاءٍ صامتٍ لا تُرى ولا تُسمع، زادتْ مع ازديادِ هواءِ موجةِ الصقيعِ الذي بدأَ يهبُّ علينا كلَّنا برخاءٍ، وصرتُ أنقّلُ بصري بينَ خدِّ الطفلِ وهو يمشي حاملاً القفصَ، وبين خمري الذي بداخلِهِ، والذي مازالَ منخرطاً في نوبةِ تغريدِهِ التي امتزجتْ معَ صوتِ المؤذنِ وهو ينادي: «حيَّ على الصلاةِ حيَّ على الصلاة»، ثم أفضتْ بهِ إلى أنْ يُنكّس رأسَه في معلفِهِ حزناً على معشوقتِه غرام. ما إن ولّاني الطفلُ دبرَهُ حتى سَقطَ نظري دونَ قصدٍ على ردفيهِ، فكدتُ أشهقُ وماءُ القهرِ يملأُ جوفي حينَ اكتشفتُ فجأةً شبهاً ما في الشكلِ بين ردفيهِ وردفيها، فصرتُ أرى ردفيها الجميلينِ في ردفيهِ، وهو يمشي بجانِبِ أبيهِ على أنغامِ صوتِ خمري المرسلةِ في الغبشِ إلى حبيبتِه غرام، التي غادرتْ السوقَ واختفى أثرُها مع المالكِ الجديد. تعذبتُ كثيراً في مكاني، تعذبتُ بالصقيعِ، وبالشوقِ إلى شَريه، وبالترددِ بينَ المشي إلى المسجدِ لتأديةِ صلاةِ المغربِ جماعةً، وبينَ المشي في أثرِ الطفلِ لرؤيةِ أشياءَ جديدةٍ فيه من أمِهِ لم أرها حينَ كانَ واقفاً في السوقِ، فَمُها مثلاً، ترددتُ وترددتُ حتى غابَ الطفلُ وأبوهُ وخمري معهما في ظلمةِ العشاءِ الأولِ التي حلّتْ على المدينةِ، وحتى انتهتْ صلاتَا المغربِ والعشاءِ اللتانِ جمعهُما الإمامُ في وقتٍ واحدٍ بسببِ التكاثفِ السريعِ للصقيعِ، ومشيتُ راجعاً إلى حزني ووحدتي وكآبتي، بدونِ طيورٍ جميلةٍ أليفةٍ أملكُها وأربيها وأحبُّها وتحبني، ودونَ أن أقدرَ على الغناءِ مثلَ خمري، ودونَ أن أقدرَ مثلَ غرام على إطلاقِ أصواتِ الخطر. تغريدة خمري ناصر سالم الجاسم ككل رمضان.. ما يقطفه من ثمرات الصوم هو أن يتعزز حواره الداخلي. فعندما يُحَيٌد رغباته الحسية ويعزلها عن مشهد حركته النهارية، يصبح كل شيء مجرداً وحتى الشخصيات التي يتعامل معها لا تتعدى كونها أشباحاً تقوم بوظائف محددة.. أكثر من ذلك، يصبح جسده آخراً في علاقته معه. لهذا تكون الساعات القليلة بين صلاتي العصر والمغرب هي الأثيرة لديه. ففيها تخرج شخصيات تراثية من بُطُون الكتب وتتجسد أمام ناظريه!؟ وهذا العام صاحب منها شخصيتين ونسج خيوطاً من الود بينه وبين أبي حيان التوحيدي والجاحظ، حتى شعر أنه وهما يؤلفون حلقة واحدة من حلقات الدرس في المدرسة (النظامية) ببغداد. بالطبع، تداخل الزمان والجغرافية لا يهمه في رحلته نحو التاريخ. فما هو منطقي لا يريده، لهذا يقطع أي حوار منذ بدايته عندما يتجه نحو علم الكلام أو الفلسفة، ويقبل منه ما كان متلبساً بأبيات شعرية أو مندساً في حكاية. هذا اليوم، طال بضيفيه النقاش حتى أخذته غفوة بسيطة صحا على مجموعة من الأصوات المتداخلة: (البصائر والذخائر)، (عجينة السمبوسة لا تكفي)، (البيان والتبيان)… ثم هزة عنيفة نوعاً ما وقف على أثرها وهو بكامل إفاقته: – أسطوانة الغاز فارغة وسوف يتأخر طعام الفطور… «انزياحة في خط الزمن» كاظم الخليفة حالة استثنائية* حسين بن صبح dv

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

CAPTCHA


زر الذهاب إلى الأعلى